في الفنِّ كما في الحياة، لا يتوقف الأمر على تصميم إرادتنا فحسب، وإنما يجب قبول أوامر الحقبة التاريخية. إنّ هذا الخضوع لما يفرضه التاريخ هو احتمال الحقيقة الوحيد الذي يمتلكه الإنسان، غير أنَّ التاريخ نفسه غير ثابت، فهو يتحرك تبعاً لأنغام بيولوجية مهمة. فالتحولات التاريخية الرئيسية لا يمكن أن تكون قد قامت على أساس عوامل ثانوية تفصيليّة، ولكنها نشأت على أساس عواملٍ جوهرية، على أساس قوى أوليّة وكونيّة. إن هذه القوى التي توجد خارج نطاق الاختلافات والتناقضات القطبية الكبيرة التي توجد في الكائن الحي - كالأجناس والأعمار- لا تمارس تأثيراً على ملامح العصور. وبالفعل فإنه من السهل أن نلاحظ، على مرِّ العصور، أنَّ التاريخ كان يتأرجح بشكل إيقاعي من قطب إلى قطب آخر تاركاً في حقبة ما الغلبة للصفات والبصمات الذكورية وفي حقبة أخرى الصفات والبصمات الأنثوية. هذا ما تؤكده لنا الشاعرة كلارا خانيس (Clara Janés)؛ وهي التي كرست جزءً كبيراً من أعمالها في تقديم المواهب النسائية المتعددة ليس في مجال الأدب فحسب، وإنما في العلوم وشعاب المعارف المختلفة، في كتابها الجديد الذي يحمل عنوان (اعتني بمنزلك وابقي صامتة: عن المرأة والأدب)، الصادر عن دار نشر "¨Siruela الإسبانية، والذي يقع بـ 188 صفحة من القطع المتوسط.
الكتاب رحلة مثيرة للاهتمام نعبر فيها الثقافات العالمية وفترات التاريخ المختلفة وذلك من خلال الأعمال الأدبية الكبرى لنساء وجدن بالآداب الطريقة المثلى للتعبير عن حساسيتهن ومواهبهن.
بعد أن جمعت الشاعرة وقدمت قصائد أوائل الشاعرات اللواتي كتبن باللغة الإسبانية، وبعد أن درست إبداع النساء العربيات الأندلسيات، والمبدعات الأفغانيات، ها هي تُبرز لنا اليوم في عملها الأدبي مفاجآت عدة وفي مقدمتها مفارقة أنّ أول كاتبِ مشهور عرفه التاريخ هي الراهبة الأكدية "انخيدوانا" والكاهنة الأعلى للإله "نانا" إله القمر عند السومريين، وأنه خلال قرونٍ عديدة راح التاريخ، في الشرق الأقصى، يحتفظ بجزء منه إلى عاهرات البلاط، في حين أن المرأة البسيطة كان عليها آنذاك أن تتعلم قواعد السلوك الضرورية الخاصة بما يتلاءم مع جنسها.
تكشف لنا الشاعرة كلارا خانيس في كتابها أنه تبعاً للوضع الاجتماعي التي وجدت فيه المرأة عبر الزمان في أماكن وحقبات تاريخية مختلفة، استطاعت أن تجد حريتها على الرغم من الحبس والعزلة، وتعرض لنا مثال "الراهبات"، كذلك نلاحظ أن الشاعرة تخالف رأي الكاتبة والمنظرة الاجتماعية الفرنسية سيمون دي بوفوار وتقول إنه يوجد العديد من النساء المحاربات، بما في ذلك، أنظمة وقواعد الفروسية النسائية. غير أنه على مر التاريخ، فإن الأماكن التي برزت فيها المرأة كانت في العزلة والحبس. فمنذ عصر الكهوف إلى يومنا هذا، مروراً بكنائس ودير العصر الوسيط، أصرَّ الرجل على إخفاء وطمس شخصية وإرادة وصوت المرأة ولكنه لم يستطع الوصول إلى مبتغاه دائماً. فقد تركت المرأة في مجال الأدب ولو بشكل خجول، منذ التقاليد الشفهية إلى يومنا هذا، أثراً أنثوياً واضحاً سواء كان ذلك من قبل شاعرات أم كاهنات، أم مفكرات، أم محاربات، كما تقول الكاتبة نفسها.
بالنسبة لعنوان الكتاب فهو مستوحى من كتاب الشاعر والمفكر الإسباني الشهير فراي لويس دي ليون الذي يحمل عنوان "الزوجة المثالية" حيث يقول: "وكما قلنا سابقاً فإن الطبيعة أجبرت النساء لكي يقمن وهن محتجزات بمنازلهن، برعاية المنزل والبقاء صامتات".
الكتاب يتألف من ستة فصول حملت العناوين التالية (منشور على شكل مقدمة؛ راهبات ومومسات وأميرات وعاشقات: الكتابة المتناقضة؛ أنغام البحر: المرأة والكتابة في اليونان وروما؛ حدائق مغلقة ومتع مفتوحة: الشاعرات العربيات الأندلسيات؛ حب عن بعد وجسد على جسد: شاعرات جولات ومحاربات ونورانيات؛ ذلك الزمن الذي كانت فيه الملكات عبيداتٍ أو مجرد قناع؛ صوت النساء الصامتات.
تقول الشاعرة كلارا خانيس في مقدمة الكتاب: " خطرت على بالي عن طريق المصادفة الجملة التالية: المؤنث هو الآخر. ولكن، أوه أيتها السماوات، ما هو الحدث التاريخي الذي يؤكد ذلك؟ ما هو النص الذي يثبت ذلك؟ هل يمكن ملاحظة ذلك في المأساة اليونانية أو في الإنجيل؟"
لطالما كان هناك اختلاف بين الرجل والمرأة، فالفرق واضح في الجسد قبل أي شيء آخر. ولكن بالرغم من ذلك، وبالعودة إلى ما قبل التاريخ، كانت هناك فترة تاريخية – بغض النظر عن الولادة- مارس فيها كل من المرأة والرجل الأعمال والأشياء نفسها. لقد حدث هذا عندما كان الإنسان يعيش بين أغصان الأشجار، وكان الرجل آنذاك مجرد جامع يجول اليوم كله بحثاً عن الطعام، وعند حلول المساء، كان يتسلق أغصان الأشجار من أجل أن ينام. ولكن مع اكتشاف الكوخ أو الملجأ، ومع اكتشاف الصيد، بدأت معالم الاختلاف الأولى تظهر بين الجنسين. فالنساء ليس لديهن القوة الكافية لمواجهة الحيوانات الكبيرة. هكذا بدأت هذه الاختلافات مع التطور الذي عرفته البشرية تكبر وتتزايد مع كل مرحلة تاريخية.
ولكن هذا الاختلاف الطبيعي بين الرجل والمرأة؛ والذي تحوّل فيما بعد إلى اختلاف على كافة المستويات، يمكن أن يشكّل غنى جوهرياً ينبغي علينا عدم رفضه. وهنا تستشهد الشاعرة كلارا خانيس بقول للشاعر أدونيس: "المعرفة الحقيقية هي معرفة المجهول والمختلف والمتنوع".
من الجديد بالذكر أن الشاعرة كلارا خانيس هي من أبرز الكاتبات المعاصرات ليس في إسبانيا فحسب، بل في الدول الناطقة باللغة الإسبانية. ولدت "كلارا خانيس" في مدينة برشلونة 1940م، حصلت على الليسانس في الفلسفة والآداب، ثم انتقلت بعدها إلى باريس؛ المكان الذي تعلمت فيه البحث على حدِّ قولها، لتدرس في جامعة السوروبون الأدب المقارن.
طورت الكاتبة أكثر من جنس أدبي ولكنها برزت أكثر ما برزت في الشعر والدراسة، إضافة إلى الترجمة عن الفرنسية والتشيكية. حصلت على العديد من الجوائز الأدبية الوطنية والدولية. نذكر من أعمالها على سبيل المثال لا حصر: "الكلمة والسر"؛ "الأشجار في الثقافات الثلاث"؛ "نحو الضوء"؛ "عالمي الشعري" إضافة إلى العديد غيرها. حالياً هي عضو في الأكاديمية الملكية الإسبانية للغة عن حرف "U".